سورة الإسراء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ.. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. هى أنه لما كانت الآيات السابقة قد حملت شيئا من التلويح للنبىّ الكريم أن يعدّ نفسه للصبر والاحتمال على ما يلقى من المكاره من قومه، فقد ناسب أن تجىء هذه الآية وما بعدها، محمّلة بالزّاد الذي يتزود به، في هذا الموقف المتأزّم، الذي تنحلّ فيه العزائم، وتزلّ الأقدام، فيجد منه المدد الذي يقوّى عزمه، ويثبت قدمه. وذلك بإقامة الصّلاة من دلوك الشمس، أي من وقت الزّوال عند الظهر، {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي ظلمته.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي وصلاة الفجر، وهى صلاة الصبح، وسميت قرآنا، لأن قراءة القرآن أظهر وجوهها.. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} أي ذا شأن عظيم، يلفت إليه الأنظار، ويستدعى إليه المشاهدين.. وقيل إن هذا الوقت يحتشد فيه الملائكة، حيث يلتقى ملائكة الليل، وملائكة النهار.
ودعوة النبىّ إلى إقامة الصلاة من وقت زوال الشمس عن كبد السماء، إلى دخول الليل واشتداد ظلامه، هو دعوة له- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى إقامة أربع صلوات، هن: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.. وأما صلاة الصبح، فقد جاء الأمر بها في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}.
وقد أفردت وحدها، لما فيها من مشقّة، ولما في وقتها من بركة.
وفى قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} دعوة خاصة إلى النبي الكريم، أن يتهجّد بالقرآن.. إلى جانب إقامة الصلاة المفروضة.. وقد كانت تلاوة القرآن هى عبادة النبىّ في أول الدعوة، حيث جاء أمر اللّه سبحانه وتعالى إليه بقوله: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا..} فلما فرضت الصلاة، ظلت تلاوة القرآن فريضة واجبة على النبىّ، مندوبة، للمؤمنين.
والتهجّد: اليقظة بالليل بعد النوم.
ومن الليل: أي من بعض الليل، لا كلّه.. فحرف الجرّ {من} للتبعيض.
والنافلة: الزيادة، على المطلوب.
فالنبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم، مطالب في هذا، بما لم تطالب به أمته، وهو أن يقوم من الليل، بعد أن ينزع عنه لباس النوم، وأن يصحب القرآن معه، يصلّى به ما شاء اللّه له أن يصلّى.. وذلك واجب عليه هو، مندوب لأمّته.
وفى قوله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} شرح لصدر النبىّ، وإغراء له بهذا التهجّد الذي تحمل فيه النفس ما تحمل من عناء ومشقة، فذلك قليل في سبيل مرضاة اللّه سبحانه، والقرب منه، والفوز بالمقام المحمود عنده.
والمقام المحمود، هو مجمع المحامد كلّها، حيث لا يناله إلا من جمع المحامد جميعها.
وفى التعبير عن الرفع إلى المقام المحمود، وإحلال النبىّ به- في التعبير عنه بالبعث، إشعار بأنّ هذا المقام هو مرتبة لن تصل إليها البشرية، إذ لم تؤهلها لها طبيعتها.. فالإنسان الذي ينال هذا المقام كأنما خلق خلقا جديدا. وانسلخ انسلاخا يكاد يكون تامّا عن طبيعة البشر..! وهذا هو سرّ من أسرار تصدير هذا الوعد الكريم من ربّ العالمين بفعل الرجاء {عسى} ليظل النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- متطلعا إلى هذا المقام، طامعا فيه، راجيا أن يبلغه.. وقد بلغه- صلوات اللّه وسلامه عليه- كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} ولا يتحقق رضاه- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلا إذا تحقق له هذا الرجاء، الذي تعلّقت به نفسه، وهو أن يبعثه ربّه مقاما محمودا.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}.
هو دعاء علّمه إياه ربه، ليدعو به عند كل أمر يعالجه، ويعمل له، وهو أن يستعين ربّه عليه، بأن يدخله مدخل الصّدق إلى هذا الأمر، ويسدّد خطاه عليه، ويهيىء له الأسباب المنجحة له، حتى يخرج منه موفقا، بالغا الغاية المرجوة منه.
فالدخول إلى أي أمر ما، هو مباشرته، والخروج منه، هو الفراغ منه.
كالمعركة مثلا في ميدان القتال.. الدخول إليها هو الالتحام في القتال، والخروج منها هو انتهاء المعركة بانتصار أحد الفريقين المتقاتلين.
والدخول مدخل الصدق إليها، يكون أولا وقبل كل شيء بتخليص دوافعها من البغي والعدوان، بأن تكون دفاعا عن حق، ودفعا لظلم.
ثم يكون ثانيا، بالإعداد لها إعدادا روحيا وماديا، بتوطين النفس على الاستشهاد في سبيل اللّه، وباستيفاء وسائل الحرب، وخطط القتال.
وهكذا كل أمر يعالجه النبىّ.. يدعو اللّه أن يكون دخوله إليه من مدخل الحق، لا يبغى غير الحق ولا يعمل لغير الحقّ. وأن يكون خروجه منه من مخرج الحقّ، فلا يتلبّس أثناء ممارسته لهذا الأمر بشىء من الباطل.. وهذا إنما يستعان عليه باللّه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً} فبهذا السلطان الذي يمدّه اللّه به، يجد الحراسة القوية الأمينة، التي تدفع عنه كلّ عارض يعرض له من وهن أو ضعف أو خذلان.
قوله تعالى: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً}.
هو الوصف الكاشف لخاتمة أمور النبىّ كلّها، قبل أن تجىء خاتمتها.. فكل أموره- صلوات اللّه وسلامه عليه- سيدخلها مدخل صدق، وسيخرج منها مخرج صدق، مستندا إلى سلطان اللّه، مؤيّدا بنصره.. وهذا إعلان- مقدّما- بانتصار الحق الذي يدعو إليه النبىّ، ويعمل له، وهو دعوة الإسلام، وهداية الناس إلى اللّه.
وقد تحقق هذا.. فانتصرت دعوة الإسلام، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا!.
روى أن النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم، حين دخل مكة فاتحا، دخل الكعبة وفيها حشود حاشدة من الأصنام التي كان يعبدها المشركون، فجعل صلوات اللّه وسلامه عليه- يدفع بها صدورها، فتتهاوى على الأرض، وهو يقول:
{جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً}.
قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً}.
هو إلفات إلى هذا القرآن الذي بين يدى النبىّ، والذي يتلقّى آياته وكلماته من ربّه- إنه هو الحقّ الذي فيه الشفاء لما في البصائر من عمى، وما في القلوب من ضلال، وهو الرحمة التي تبسطها يد الرحمن الرحيم إلى عباده ليستشفوا بها من جهالتهم وضلالهم.. ثم هو الرائد الأمين الذي يدخل المصاحب له مدخل الصدق، ويخرجه مخرج الصدق، ويجعل له من عند اللّه سلطانا نصيرا.
والمؤمنون، الذين يستجيبون لدعوة النبىّ هم الذين ينتفعون بكلمات اللّه وآياته، ويجدون فيها الشفاء والرحمة.
أما الذين يشاقّون النبىّ، ويصدّون عن سبيل اللّه، فلن يزيدهم القرآن إلّا ضلالا إلى ضلالهم، ومرضا إلى مرضهم.. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [10: البقرة].
وفى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} إشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما يتنزل حالا بعد حال، ولم ينزل جملة واحدة.. وهذا يعنى أن كل ما ينزل من القرآن، هو شفاء ورحمة، سواء ما نزل، أو سينزل.. لا أنّ بعضه فيه شفاء ورحمة، وبعضه الآخر ليس فيه شفاء ورحمة، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين.. فكل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، وكل القرآن لا يزيد الظالمين المكذبين به إلا خسارا وتبابا.


{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها قد جاءت لتذكر الناس بنعمة من أعظم النعم عليهم، وهى هذا القرآن، وما يحمل إليهم من شفاء ورحمة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
وإذا كان كثير من الناس يكفرون بنعم اللّه، ويستقبلونها بالجحود والنكران، فقد ناسب أن يجىء قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} ليكشف بذلك عن طبيعة مندسّة في كيان الإنسان في عمومه، وهو أنه إذا ألبسه اللّه نعمة من نعمه، بعد عن اللّه، وشغل بهذه النعمة، وأنه لا يذكر اللّه إلا إذا مسّه الضرّ.. فإذا ذكر اللّه في تلك الحال، ذكره وقد بعدت به الطريق عن اللّه إذ قطع كل صلة بربّه، وهذا من شأنه أن يضعف ثقته باللّه، ويؤيسه من رحمته.. وهكذا الذين لا يؤمنون باللّه.. إنهم لا يرجون ثوابه، ولا يطمعون في رحمته، لأنهم لا يعرفونه، بل ولا يعترفون به إلّا عند الشدّة والبلاء، حيث تطيش أحلامهم، ويضيع صوابهم.. وليس كذلك المؤمنون باللّه، إنهم على طمع دائم في رحمته، وعلى رجاء وثيق في كشف ما يحلّ بهم من سوء، وما ينزل بهم من ضر.. {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [87: يوسف].
هذا وفى الآية الكريمة باب فسيح من أبواب رحمة اللّه، يدخل منه الناس جميعا إلى حيث يجدون الرحمة والإحسان.. {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
فسبحانك سبحانك من ربّ كريم رحيم.
وشاهت وجوه من اتجهوا إلى غيرك، ومدّوا أيديهم إلى سواك.
قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا}.
الشاكلة: الطبيعة التي يكون عليها الإنسان، وهى التي تحدد طريقه ومذهبه في الحياة.
وفى هذه الآية إشارة إلى أن الناس ليسوا كلّهم على شاكلة هذا الإنسان الذي تحدثت عنه الآية السابقة في قوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً}.
ففى الناس من يقدر اللّه حقّ قدره، إذا أنعم اللّه عليه، شكر، وإذا مسّه الضّرّ، صبر، وانتظر في أمل ورجاء رحمة اللّه، وفضله.
وفى قوله تعالى: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} تحريض لأهل الغواية والضلال أن يكونوا من أهل الهدى والاستقامة.. وأن تكون أعمالهم على صورة طيبة مرضية.. فالأعمال، مشاكلة، ومشابهة لأصحابها. فإذا ساءت الأعمال كان أهلها أهل سوء، وإذا صلحت الأعمال، كان أهلها أهل استقامة وصلاح.
وفى قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا} وفى إضافة الناس جميعا إلى ربّهم، دعوة لهؤلاء الشاردين عن طريق الحق، أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يعودوا إلى ربّهم، حتى يكونوا أهلا لأن يضافوا إليه، وينزلوا دار ضيافته وكرمه.
قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
الواو في ويسألونك، للاستئناف، وهى في نظمها هذا، إنما تنادى بصوت عال فاضح لهؤلاء الذين يسألون هذا السؤال الذي لا يريدون به هدى، ولا يبغون منه معرفة، وإنما هو المراء والجدل، واللّجاج في والضلال والعناد.
وفى الحديث عن هؤلاء السائلين بضمير الغيبة الواو في {ويسألونك} دون أن يجرى لهم ذكر- في هذا تجهيل لهم، وإتاحة الفرصة لمن اشترك في هذه الجريمة أن يفرّ بنفسه، وأن يطلب السلامة بالبعد عن هذا الموطن، الذي من ضبط فيه متلبسا بهذا التساؤل المنحرف عن طريق الاستفادة والمعرفة- كان في وجه الاتهام والمؤاخذة.
وقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من شأنه سبحانه وتعالى، ومما وسعه علمه هو، جلّ شأنه.
وفى قوله سبحانه: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
أمور.. منها:
أولا: الإشادة بمقام العلم، والاحتفاء بأهله.. وأنه بقدر حظ الإنسان من المعرفة، ومبلغه من العلم، تكون منزلته، ويكون قدره.. وأن اللّه سبحانه وتعالى، وقد أحاط بكل شيء علما، فإنه- سبحانه- قد استأثر بكثير من أسرار الوجود، لا يصل إليها علم العلماء.. وهكذا، كل من حصّل شيئا من العلم، هو مستأثر بسرّ ما علم، مالك له، متصرف فيه، وإن على من أراد أن يكون له مكان في هذا المقام، فليطلب العلم وليلحق بركب العالمين.
وثانيا: أن العلم الذي يحصّله العلماء، وتتسع له المدارك والعقول.. هو علم قليل قليل.. لا يبلغ شيئا إلى جانب علم اللّه.. ويكفى الإنسان جهلا وصغارا أنه يجهل نفسه، ويجهل الروح السارية فيه، والتي هى مبعث حياته، وحركته.. فكيف يكون له علم مع علم اللّه الذي وسع الوجود كله علما وحكمة ورحمة.؟
وثالثا: التحريض على طلب العلم، والاستزادة منه، حتى يكون هذا العلم القليل الذي نعلمه، كثيرا، نفيد منه في أمور معاشنا ومعادنا.. فما أكثر ما نجهل من عالمنا الأرضى المحدود الذي نعيش فيه، وما أكثر ما ينكشف لنا كل يوم من خباياه وأسراره.. فلنطلب العلم، ولنجدّ في الطلب.. ولكن ليكن ذلك لحساب العلم والمعرفة، لا لإشباع شهوة المماحكة والجدل.
هذا، والرأى عندنا أن يكون المراد بالروح هنا القرآن الكريم، فهو روح الأرواح، وحياة النفوس، وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى القرآن الكريم بهذه الصفة في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [2: النحل] وفى قوله سبحانه: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [15: غافر].
فالروح هنا، كلمات اللّه تنزل بها الملائكة على رسل اللّه، ليبلغوها أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.. وقد اتصلت كلمة الروح في هاتين الآيتين ب قوله تعالى: {مِنْ أَمْرِهِ} كما اتصلت في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}.
فكان الرّد عليهم: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وفى هذا قرينة على أن الروح هنا هو الروح هناك.
وأصرح من هذا، في الدلالة على أن المراد بالروح هو القرآن الكريم ما جاء في سورة الشورى في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الآية: 52).. فالروح هنا صريح الدلالة على أن المراد به هو القرآن الكريم.
وكذلك ما جاء في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ..} ففى ليلة القدر تنزل الملائكة، كما نزل القرآن الكريم فيها، إذ يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
وفى اقتران نزول {الروح} بقوله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} و{مِنْ أَمْرِهِ} و{مِنْ أَمْرِنا} و{مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} إشارة إلى ما يحمل القرآن الكريم من أحكام اللّه سبحانه وتعالى، وما قضى به سبحانه، من أمر ونهى.. وخصّ الأمر بالذكر، لأن النهى في حقيقته أمر بالترك للمنهىّ عنه ومجانيته، فهو داخل حكما في الأمر.
وهذا المفهوم لكلمة {الروح} وأن المراد بها القرآن الكريم، يسانده ما جاء في الآية الكريمة بعد هذا {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} حيث كان المشركون يسألون عن القرآن الكريم سؤال استهزاء، من أين جاء به؟
وعمن أخذه؟ ومن أعانه عليه، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً} [4: الفرقان].
وقد جاء الرد عليهم في قوله سبحانه: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أي فهذا القرآن وما اشتمل عليه من علم، هو من بعض علم اللّه.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً}.
المشيئة الإلهية هنا غير مرادة ولا واقعة، لأنها معلقة بإرادة اللّه سبحانه وتعالى.. واللّه سبحانه وتعالى لا يريدها.. فهى مشيئة غير مشاءة.. {فلو} حرف شرط، يفيد امتناع الشرط لامتناع جوابه.. والتقدير: لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك.. ولكننا لم نشأ.
والغرض من هذا الشرط غير الواقع، الإشارة إلى أنه ممكن الوقوع، وأن إمكان وقوعه متوقف على مشيئة صاحب المشيئة.. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً}.
ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يقع هذا، ولذلك جاء التعقيب بعد ذلك: {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} وفى توكيد الفعل الواقعة عليه المشيئة: {لنذهبنّ} إشارة إلى ما لمشيئة اللّه سبحانه وتعالى من سلطان غالب لا يدفع، وقوة قاهرة لا تردّ.
وفى الآية إلفات إلى العلم الكثير الذي اشتمل عليه القرآن الكريم، والذي ضمّت عليه آياته وكلماته، وأنه إذا أصغت الآذان إليه، وتفتحت القلوب له، ووردت العقول موارده- وجد عنده واردوه، والمتعاملون معه، والآخذون منه، مذخورا لا ينفد من العلم والمعرفة.. كما يقول سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وكما يقول جل شأنه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ} [51: العنكبوت] فهذا القرآن، وما حمل إلى الناس من هدى ورحمة، وما جمع بين دفتيه من علم ومعرفة- هذا القرآن، وهذا شأنه، قد غفل عنه هؤلاء الغافلون الجاهلون.. ولم يقفوا عند هذا، بل تصدّوا له، وحاربوه، وقال بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [26: فصلت].. ثم ها هم أولاء يجيئون من خلف القرآن، ويتسلّلون من ورائه، في خبث ومكر، يسألون سؤال من يطلب العلم، ويبغى المعرفة، وما هم بطلاب علم، ولا روّاد معرفة.. إذ لو كانوا كذلك لكان فيما نزل عليهم من قرآن ما يملأ عليهم حياتهم علما ومعرفة: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ}؟ (51: العنكبوت).
ففى قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}.
تهديد لهؤلاء المشركين بتحويل هذا القرآن عنهم، ورفعه من بينهم، وحرمانهم هذا الخير العظيم المسوق إليهم! ولكن رحمة اللّه سبحانه وتعالى بك أيها النبىّ وبقومك، هى التي أمسكت هذا الخير عندهم، وأبقته فيهم: {إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} فبفضل اللّه سبحانه وتعالى عليك، وإكرامه العظيم لك، قد أبقى على قومك، فلم يعجّل لهم العذاب، ولم يقطع عنهم هذا الخير الذي حملته إليهم بين يديك.. بل جعله اللّه سبحانه مائدة ممدودة لهم، وموردا يردونه أنّى شاءوا، غير مدفوعين عنه، ولا محرومين منه.
قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
الظهير: السّند والمعين.. وهو الذي يسند إليه الإنسان ظهره، فيكون قوة من ورائه.
بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم، تلك الإشارة الدالة على ما فيه من علم غزير، وخير كثير، قد غفل عنه المشركون، وأنهم- إذ فعلوا ذلك- ليسوا أهلا لأن يعيش بينهم هذا الخير وذلك العلم، ولكن فضل اللّه العظيم، على نبيّه الكريم، قد أمسك على قومه هذا القرآن فيهم، ليتداركوا أنفسهم، وليأخذوا بحظهم منه.
نقول: بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم وموقف المشركين منه- جاء قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ليكون ذلك بيانا كاشفا عن قدر هذا القرآن، وعن علوّه الذي لا ينال، وأنه روح من أمر اللّه، يحيى موات القلوب والنفوس.
فهذا القرآن، مع أن مادته مما يصوغ منها العرب شعرهم ونثرهم، ومع أن كلماته وتراكيبه جارية على ألسنتهم، معروفة لهم- هو معجزة قاهرة متحدّية للإنس والجنّ، أبد الدهر، فمن شاء منهم، فليقف لهذه المعجزة، وليتحدّ هذا التحدي، وليدع إليه من استطاع من الإنس والجنّ، ثمّ لينظر ماذا يكون هذا الذي استطاع هو ومن معه أن يأتوا به، وليعرضوه في مقام الموازنة والمقايسة بينه وبين القرآن العظيم، ثم ليكن حكمهم في هذا هو مقطع القول في إعجاز القرآن أو غير إعجازه! وهو الجواب المفحم عن الروح الذي سألوا عنه! نقول هذا، ولا نحسب أحدا منذ نزل القرآن إلى اليوم، قد دخل في هذه التجربة، ثم استقام له منها شبهة في أن أي كلام، مهما بلغ من البلاغة، يدنو من سماء القرآن، وينتظم في عقده.. وكيف وهو أرض والقرآن سماء، وهو حصى والقرآن جواهر؟!
روى أن أبا العلاء المعرى كان يردد قوله:
كم بودرت غادة كعاب *** وعمّرت أمّها العجوز
أحرزها الولدان خوفا *** والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا *** والخلد في الدهر لا يجوز
ثم تأوّه مرات، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [103- 105: هود].. ثم صاح وبكى بكاء شديدا، وطرح وجهه على الأرض زمانا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه، وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم.. سبحان من هذا كلامه! وإنها لشهادة ناطقة على إعجاز القرآن، وأنه يسقط بين يديه كل كلام وإن علا، وأنه يستخرى بين يديه كل بليغ، وأنه ملك البلاغة، وبزّ البلعاء.


{وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}.
صرّفنا: بيّنا، وكشفنا، وذلك بعرض الأمر على وجوهه كلّها، حتى ينكشف للناس جميعا.. والتصريف التنويع، ومنه تصريف الرياح، وهو هبوبها من جهات مختلفة.
بعد أن بيّن اللّه سبحانه وتعالى ما في القرآن الكريم من هذا الإعجاز الذي أعجز الإنس والجنّ، جاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} جاء ليكشف عن هذا الضلال المبين، وذلك العناد الأعمى، الذي يستبدّ بالناس، فيعميهم عن الحق، ويصرفهم عن الهدى، ويزين لهم الباطل.
فهذا القرآن في بيانه المبين، وحجته المشرقة القاهرة، وهذه الآيات التي صرّفها اللّه سبحانه وتعالى في هذا القرآن، والأمثال التي ضربها للناس فيه، كلّ هذا لم تبصره أبصار الضالين، ولم تطمئن به قلوب المشركين، بل إن ذلك قد زادهم نفورا عن الهدى، وبعدا عن الحق.. شأنهم في هذا شأن كثير من الهوامّ والحشرات التي يأخذ ضوء النهار على أبصارها، فتفرّ من كل مكان يلوح منه ضوء! قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً}.
هذا بيان لما كان عليه المشركون من عناد ومكابرة في الحق.. فهم إذ عموا عن آيات اللّه، وإذ لم يروا منها ما يراه أهل السلامة والعافية، لم يتّهموا أنفسهم، ولم ينظروا إلى هذا الداء المتمكن منهم، فلجّ بهم في الضلال، وساقهم إلى هذا التيه الذي هم فيه، بل اتهموا القرآن نفسه، وقالوا: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ثم راحوا يتحدّون النبىّ، ويقترحون عليه في مجال التحدّى أن يأتيهم بآيات مادّية يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم.
{وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً}.
فهذه واحدة من مقترحاتهم.. أن يفجر لهم ينبوعا من الأرض يتدفق منه الماء، كما فعل موسى مع بنى إسرائيل بعصاه.
وأخرى.. هى أن تكون للنبىّ جنة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار في وسط هذه الصحراء الجديب.. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً}.
وثالثة.. هى أن يسقط عليهم السّماء، فتطبق على الأرض وتحيلهم وديارهم ترابا في ترابها.
{أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً}.
والكسف: القطع.
ورابعة.. وهى أن يأتيهم باللّه ومعه الملائكة.
{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}.
والقبيل: ما يقابل الشيء ويواجهه، ومنه القبلة، لأنها في مقابل من يتجه إليها، ويقبل عليها.
وخامسة.. وهى أن يكون له بيت عظيم، وقصر مشيد، كقصر كسرى أو قيصر، تحتشد فيه الزخارف، وتجتمع فيه ألوان الزينة والترف.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} أي من ذهب.
وسادسة، وهى أن يرقى في السماء، ويرى صاعدا إليها، كما تصعد الطيور إلى ما فوق السحاب.
{أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ..}.
وإنهم لن يصدّقوا ما تراه أعينهم، إذا هو صعّد إلى السماء، فقد يكون ذلك من قبيل السّحر، وإنّما الذي يجعل من صعوده إلى السماء آية عندهم، أن يعود إليهم، ومعه كتاب كالكتاب الذي جاء به موسى.
{وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ}.
فهذه مقترحاتهم المتحدية، التي اقترحوها على النبىّ، وله أن يختار أيّا منها.. فإن أعجزته واحدة، فليختر غيرها.. فإن أعجزته هذه المقترحات كلها، فقد أسقط في يده، وظهر عجزه، وكان عليه أن يستسلم لهم، ويدع ما يدعوهم إليه.
وفى هذه المقترحات أمور.. منها:
أولا: أنها صيغت صياغة يبدو منها أن القوم قد أنصفوا النبىّ، ولم يجيئوا إليه متعنّتين، حيث وضعوا بين يديه أكثر من سبيل، فيتخيرّ أيسرها عليه، وأقربها تناولا منه.
وثانيا: أنهم لم يقصروا مقترحاتهم على مطالب ذات نفع خاص بهم، حتى يقال عنهم إنهم طلّاب منفعة، وأصحاب أهواء.. فهم إذ طلبوا أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، طلبوا أن يسقط السّماء عليهم كسفا.. وهم إذ طلبوا لأنفسهم أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، طلبوا له أن ينشىء لنفسه جنّة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار وليس نهرا واحدا، كما طلبوا أن يقيم له قصرا مشيدا، مزخرفا، مموها بالذهب.
وثالثا: أن أصابع اليهود تبدو بصماتها واضحة على تلك المقترحات، وأنهم هم الذين صاغوها للمشركين تلك الصياغة الخبيثة الماكرة.. إذ هم أصحاب قدم راسخة في هذا الضلال الذي كانوا يلقون به رسل اللّه إليهم.. فقد سألوا موسى أن يريهم اللّه جهرة، كما يقول اللّه تعالى عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [55: البقرة]. ومن مواقفهم الماكرة مع موسى أنهم أرادوا أن يمتحنوا قدرته على الاتصال باللّه، فطلبوا إليه أن يأتيهم بطعام غير المنّ والسّلوى، وهو طعام سماوى وضعه اللّه في أيديهم.. فقالوا {فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها، قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [61: البقرة].
فهذه المقترحات التي اقترحها المشركون على النبىّ لم يكن مرادا بها إلّا التحدّى، حتى ولو كان في هذا التحدّى هلاكهم! فقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً} هو من قبيل ما طلبه بنو إسرائيل، من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير!! وقد أمر اللّه نبيّه أن يردّ على مقترحاتهم تلك بقوله سبحانه: {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا}.
وقد تضمن هذا الرد أمرين:
أولهما: أنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس إلا بشرا مثلهم، وأنه محكوم بهذه البشرية التي تحكمهم، وأنه بحكم هذه البشرية ليس مما يحسب عليه، أو ينقص من قدره ألّا يأتى بشىء من هذه المقترحات التي اقترحوها عليه.. لأنها خارجة عن حدود البشر.
وثانيا: أنه رسول، ومن شأن الرسول ألّا يخرج عن الحدود التي رسمها له من أرسله، وإلا كان خائنا للرسالة، وحينئذ يكون ما يعمله أو يقوله هو لحسابه الشخصي، وفى حدود مقدرته.
والرسول حريص على أداء الرسالة التي أمر بتبليغها، ملتزم الحدود المرسومة له.. فإذا حدثته نفسه بالخروج عن حدود رسالته، فمعنى هذا أنه انسلخ عن صفته تلك، ولم يعد رسولا، وأصبح مجرد {بشر} لاصلة له بالسماء.. وإذا كان كذلك، فإنه ليس له سبيل إلى الإتيان بشىء من هذه المقترحات التي يقترحها المشركون عليه، والتي هى فوق طاقة البشر! ففى هذا الرد المعجز: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا} إفحام لهؤلاء المشركين، الذين يجهلون تلك البديهيات، وهى أن الرسول الذي يقترحون عليه هذه المقترحات، هو بشر منهم، قبل أن يكون رسولا، وأن كونه رسولا لا يخرجه عن بشريته، وأنه إنما يعطى ما تقدمه له السماء، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى له: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} [110: الكهف] وكما يقول سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [44- 47: الحاقة].
قوله تعالى: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا}.
الناس، هنا، هم مطلق الناس، في كل زمان ومكان.. والمراد بهم أولئك الذين يلقون رسل اللّه بالبهت والتكذيب، ويقفون منهم موقف العناد والتحدّى، وقد جاء النظم القرآنى بكلمة {الناس} على إطلاقها، لأن الكثرة الغالبة في الناس، هى التي لا تؤمن بالرسل، وقليل منهم أولئك الذين يؤمنون.
كما يقول سبحانه: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].
والشبهة التي تفسد على هؤلاء الضالين رأيهم في رسل اللّه، وتصوّرهم للطبيعة التي يكونون عليها- هى أن الرسل الذين يكونون سفراء بين اللّه والناس، ينبغى أن يكونوا- حسب تقديرهم- على مستوى فوق مستوى البشر، إذ لو كان من الممكن أن يتصل إنسان باللّه، لكانوا هم- أي هؤلاء الضالون المنكرون- أهلا لهذا الأمر، وأولى به من هذا الرسول، الذي يدّعى تلك الدعوى على اللّه..!!
فهذا الإنكار الذي يواجه به المشركون رسل اللّه، إنما يقوم أساسا عند هؤلاء المنكرين، على أمرين:
أولهما: أن البشر عموما في مستوى دون هذا المستوي الذي يستطيع فيه إنسان أن يتصل باللّه.
وثانيهما: أنه لو كان في الإمكان أن يتصل إنسان باللّه، فلن يكونه هذا الإنسان الذي يدّعى أنه رسول من عند اللّه! فهناك عندهم من هم أولى منه.. حتى لكأن ذلك مما يتزاحمون عليه من مظاهر الحياة المادية.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [124: الأنعام].
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا} هو ردّ على هؤلاء الذين ينكرون أن يبعث اللّه بشرا رسولا، ويرفضون التعامل مع أي إنسان يقول إنه رسول من ربّ العالمين.. ويطالبون أن يكون المبعوث إليهم ملكا من ملائكة اللّه، أو اللّه ذاته، كما يقول سبحانه على لسانهم: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} [21: الفرقان].
وفى قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} استبعاد لصلاحية الملك أن يؤدى رسالة الرسول بين الناس.. إنه ملك، وهم بشر.
فلو جاء إلى الناس على صورة غير صورة البشر لفتنوا به إذا خاطبهم- وهو غير إنسان- بلسانهم وتحدّث إليهم بلغتهم.
ولو جاءهم في صورة إنسان، لظلت الشبهة قائمة عندهم في أن هذا الرسول بشر.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} [9: الأنعام] أي أنه إذا كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن يبعث إلى الناس ملكا رسولا لاقتضت حكمته أن يكون هذا الملك في صورة بشرية كاملة، حتى يمكن أن يلتقى بالناس ويبلغهم رسالة ربّه! وهذا لا يغيّر من واقع الحال شيئا.. فملك في صورة بشر.. هو في حساب الناس بشر.
قوله تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يتركهم النبىّ وشأنهم، وما هم فيه من ضلال وعمى، بعد أن أبلغهم رسالة ربّه، ورفع لأبصارهم أضواء الحق، وأنوار الهدى.. واللّه شهيد على ما كان من النبىّ وما كان منهم، واللّه سبحانه لا تخفى عليه خافية، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، مطلعا على ما يسرّون وما يعلنون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7